التفسير في عهد الرسول
لقد أنزل الله تعالى كتابه الكريم بلسان عربي مبين على نبيه الأمين ³ وأمره بالبيان والتبليغ ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا. قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ النحل: 44. ولقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ³ بالقرآن وبالسنة المفسرة له، كما قال تعالى: ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ النساء: 113. ولقد تكفل الله ببيان كتابه، وكلف نبيه إبلاغ هذا البيان ولقد كان عليه الصلاة والسلام يبلغ ما أنزل إليه من ربه، فيبين عن الله لأصحابه ما دعت الحاجة إليه من ألفاظ القرآن الكريم، ولم يترك شيئًا تحتاجه أمته في أمر دينها أو دنياها إلا وبّينه عن الله وفسره أحسن تفسير وبيان. وهنا مسألة جديرة بالاهتمام ألا وهي: هل بيّن الرسول ³ جميع القرآن أو بعضه؟ وللعلماء في هذه المسألة رأيان هما: 1- أن النبي ³ بيَّن جميع معاني القرآن لأصحابه كما بّين لهم كذلك ألفاظه. 2- أن الرسول ³ لم يبّين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل. ومن يتدبر معاني القرآن في كتب التفسير بالمأثور يجد أن النبي ³ لم يبيّن جميع القرآن، كما أنه لم يكتف ببيان القليل منه كما يرى بعضهم. إذن فالرأي المرجح أن الرسول ³ بيّن ـ لأصحابه عن الله ـ الكثير من معاني القرآن الكريم، كما تشهد بذلك كتب الصحاح وغيرها ولم يبيّن كل القرآن. ومن الأسباب التي دعت إلى هذا أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يكونوا يتكلفون الأسئلة، وكانوا يتهيبون مقام النبي ³، كما أنهم قد تأدبوا بآداب القرآن الكريم الذي يدعوهم فيه رب العالمين إلى أدب السؤال، بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزَّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم¦قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ المائدة : 101، 102. فلم يكونوا رضي الله عنهم يبتدرون الرسول ³ بالسؤال حتى يبتدرهم هو ببيان ما يحتاجونه في دينهم وغيره. ولذلك كانوا ـ رضي الله عنهم ـ يحبون أن يأتي الرجل اللبيب من الأعراب، فيسأل الرسول ³ عما يريد والرسول ³ يجيبه عن كل شيء، ولا يعنف عليه. فمن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم يستفيدون من هذه المجالسة وهذا الحوار بين الأعرابي اللبيب والرسول الرحيم. فكان الرسول ³ يبّين لأصحابه ما أشكل عليهم من فهم القرآن ويترك ما يفهمونه بالسليقة العربية. لذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فيما أخرجه عنه ابن جرير الطبري في تفسيره: (التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله). ومن البديهي أن الرسول ³ لم يفسر لأصحابه ما يرجع فهمه إلى لغة العرب؛ لأن القرآن الكريم إنما نزل بلغتهم، وكذا لم يفسر لهم من القرآن ما يتبادر إلى الأذهان فهمه، وكذا ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وفواتح بعض السور، وغيرها من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده. ولذا نجد أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانت أفهامهم تتفاوت في فهم القرآن الكريم، كما نجد أن بعضهم قد أشكل عليه من القرآن ما لم يستيقن بمراد الله منه، أو ما لم يَؤْثرُ عن النبي ³ علمًا فيه. ويشهد لهذا ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن أنس ـ رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قرأ على المنبر: ﴿وفاكهة وأبًا﴾ عبس : 31. فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟، ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقد عقب ابن كثير على هذا الأثر بقوله: وهذا محمول على أنه رضي الله عنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه ثم أضاف ابن كثير: وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل. وقرأ كذلك على المنبر: ﴿أو يأخذهم على تخوُّف﴾ النحل : 47. ثم سأل عن معنى التخوف، فقال رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص. وكذا ما أخرجه أبو عبيدة بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنه، قال: كنت لا أدري ما ﴿فاطر السماوات﴾ الشورى: 11. حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها والآخر يقول: أنا ابتدأتها. وهذا خلاف ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته حيث يقول: إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه وويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. |